الإثنين 25 نوفمبر 2024 الموافق 23 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تحقيقات وحوارات

مدارس ترفض قبول أبناء الأميين وحملة المؤهلات المتوسطة

كشكول


- 4 أمهات يروين معاناتهن فى التقديم.. وكشكول يواجه مسئولى 7 مدارس

 

ما يزيد على ١٨ مليون مصرى فى تعداد الأمية، حسب آخر إحصاء صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عام ٢٠١٧.

لكن يبدو أن بعض المسئولين عن التعليم فى مصر لا يريدون لهذا الرقم أن ينخفض حتى، فبخلاف الظروف الاجتماعية والمادية، يسهم هؤلاء بشكل أو بآخر فى زيادة هذا العدد، بعد اكتشاف أن بعض المدارس الابتدائية سواء الحكومية أو الخاصة، تشترط ضرورة حصول أولياء أمور الطلاب المتقدمين للالتحاق بها على مؤهل عالٍ، وترفض أبناء ما دون ذلك، سواء من الأميين أو ذوى المؤهلات المتوسطة، ما يعد عقابًا للأبناء وللآباء أيضًا على عدم تعليمهم فى الصِغر.

هذا التحقيق يكشف عن مدارس حكومية وخاصة ترفض التحاق أبناء الأميين وذوى المؤهلات المتوسطة بها، بدعوى أن أبناءهم سيكونون على شاكلتهم؛ ما أدى إلى وجود ضحايا من الأبناء حرموا من التعليم دون ذنب، فضلًا عن أن بعض هذه المدارس تأخذ رشاوى من أولياء الأمور حتى تقبل أبناءهم وتتغاضى عن ذلك «الشرط»، أو تلزمهم بتوقيع ما يُشبه التنازل عن الطفل لأحد أقاربه المتعلمين «على الورق» ليكون مسئولًا عنه أمام المدرسة.

 

امتنعوا عن قبول تعهد ندى بـ«إقرار الشطارة».. طلبوا من نسمة التنازل عن ابنتها.. ودعوا نجوى للتبرع

سنة ونصف السنة دارت فيهما «ندى» على عدة مدارس، حكومية وتجريبية وخاصة، بحثًا عن مقعد لابنتها البالغة ٦ سنوات وخمسة أشهر، فى واحدة منها، لكنها لم تجد إلى الآن، فقط لأنها وزوجها لا يحملان مؤهلًا تعليميًا بسبب ظروفهما المادية السيئة منذ سنوات، والتى حالت دون إكمال تعليمهما.

«أنا بقالى سنة ونص فى الموال ده، حاسة إن بنتى هتضيع عليها السنة بسبب إن أمها مكملتش تعليم، هى ذنبها إيه؟»، تقول الأم مؤكدة اشتراط جميع المدارس التى مرت عليها أن يكون الأب والأم من ذوى المؤهلات العليا.

هذا الموقف واجهته «ندى» فى المدارس الحكومية والخاصة: «روحت سانت بيتر فى مصر الجديدة أول واحدة. ووعدتهم إنى همضى إقرار إن بنتى هتكون شاطرة وهنسدد مصاريفها، بس رفضوا».

«السيدة خديجة» و«الفاروقية» مدرستان أخريان فى منطقة مصر الجديدة، طرقت بابهما «نسمة» كى تقبل أى منهما ابنتها فى الصف الأول الابتدائى، إلا أن المصير لم يختلف كثيرًا.

تقول الأم: «رفضوا عشان المؤهل، فيه ناس لجأوا إنهم يتنازلوا عن مسئولية ولادهم بإقرار رسمى لأى حد فى العيلة، زى خاله مثلًا أو عمه عشان المدرسة تقبل، لكن أنا مارضتش»، ثم تعقِّب فى تعجب وأسى: «يعنى يا بنتى تتعلم يا أتنازل عنها!».

قدمت «نسمة» لابنتها فى مدرسة عبر موقع وزارة التربية والتعليم، ولم تظهر النتيجة بعد: «ممكن تتقبل أو تترفض مش عارفة، بس ساعتها هيكون ميعاد التقديم فى أى مدرسة تانية فات وهتضيع عليها السنة».

الأمر كان أصعب بالنسبة لـ«نجوى»، ٣٠ سنة، إذ طلبت منها بعض المدارس التى طرقت بابها للتقديم لابنتها «منى»، نوعًا من الرشوة لقبول الطفلة والتغاضى عن شرط مؤهل الوالدين بدعوى أن هذا «تبرُّع للمدرسة».

لم تُكمل الأم الثلاثينية تعليمها، إذ خرجت منه فى المرحلة الإعدادية بسبب ظروف والديها المادية، ما اضطرها للعمل لمساعدة أبيها وأخيها فى الإنفاق على الأسرة، فحُرمت من التعليم فى الصِغر، وأصبحت- فى الكبر- ذريعة فى نظر هذه المدارس لحرمان ابنتها كذلك.

تقول: «مش ذنبى إنى ماعرفتش أكمل تعليمى لأن ظروف أهلى المادية مكنتش كويسة، لكن ذنبها إيه بنتى إنها ماتتعلمش لمجرد إن أبوها وأمها مش متعلمين.. إحنا كده بنزود أعداد الأميين مش بنقللهم».

تصف «نجوى» ما يحدث معها بـ«الظلم والتعسف» من قبل المدارس الخاصة أو الحكومية، وتكشف عن أن بعض المدارس التى حاولت التقديم فيها، طلبت منها دفع مبلغ إضافى على المصاريف المنصوص عليها فى أوراق التقديم: «المصاريف كانت من ٨ لـ١٠ آلاف لكن طلبوا مننا ألفين أو خمسة زيادة عشان يلغوا الشرط ده، وبيتقالنا إنه تبرع لكنه فى الحقيقة رشوة مقننة».

حدث هذا فى مدرسة «المعونة للراهبات» بمنطقة مصر الجديدة، وفقًا لكلامها المسجّل، وعندما هددت المسئولين فيها بتقديم شكوى لوزارة التربية والتعليم، ردوا عليها: «دى تبرعات للمدرسة مش رشوة»، مضيفة: «مش كده وبس، السن كمان بيفرق، يعنى لو الطفل صغير بتبقى فلوس التقديم أقل، ولما بيكبر الفلوس بتزيد، مفيش معالم واضحة للمصاريف ولا للتقديم، الكل بيرفض عشان مؤهل الوالدين اللى هو مجرد ورق فى الآخر».

مسئولة لأم: «وفرى وقتك.. إبنك ملوش مكان»

الأكثر غرابة ما تعرضت له «غادة»، ٢٦ سنة، التى حاولت التقديم فى مدرسة «الأرمن» بشارع الميرغنى، فواجهت شرط وجود مؤهل عالٍ لوالدى المتقدم، وكذلك مدرسة «سانت فاتيما» التى لم تشترط فقط المؤهل العالى، ولكن أيضًا ضرورة أن يكون لدى الأب والأم مستوى لغوى جيد، بمعنى أن يتحدثا الإنجليزية والفرنسية.

«دى شروط مستحيل توافرها، إحنا نسبة الأمية على أيامنا كانت عالية، والتعليم مكنش مهم زى دلوقتى»، تشكو «غادة» موضحة أنها ذهبت أيضًا إلى مدرسة «يحيى الرافعى» بمنطقة الدقى، وهى حكومية مميزة، لكن المسئولة هناك سألتها إذا كان لديها مؤهل أو لغة، وحين ردت بالنفى قالت لها: «يبقى وفّرى على نفسك تمن الأبلكيشن، ابنك ملوش مكان».

على غرار ما حدث مع «ندى» و«نجوى»، طالبت المدرسة «غادة» بدفع مبلغ مالى إضافى على المصروفات الرسمية لقبول ابنها أو أن تتنازل عن مسئوليته لأى أحد من أفراد العائلة، سواء عائلة زوجها أو عائلتها، شريطة أن يكون حاملًا لمؤهل عادى ولديه مستوى لغوى جيد، ثم على الأب أو الأم ألا يتدخلا فى علاقة طفلهما بالمدرسة بعد ذلك.

رفضت «غادة» العرض، وتتساءل باستغراب: «أتنازل عن مسئولية ابنى إزاى؟! بيقولوا كلام مش منطقى، ولو حصله حاجة اللى اتنازلت له ده حتى لو من العيلة مش هينفعه زى أمه وأبوه».

وتضيف: «الشروط دى موجودة ومنصوص عليها على الموقع الرسمى لوزارة التربية والتعليم، كانت ظاهرة وقت ما كان باب التقديم مفتوحًا بمجرد ما بتدخل اسم المدرسة»، مشددة على أن اشتراط المؤهل غير قانونى لأن «الدستورى بيدى حق لكل مواطن إنه يتعلم».

تكمل: «التعنت ده كله فى المدارس الحكومية اللى الفصل فيها بيكون ٨٥ طالبًا»، وتُسمِّى مدرسة أخرى بعينها: «زهرة المدائن فى مصر الجديدة برضه رفضوا ياخدوا ابنى، وحاليًا قدمنا فى مدرسة الرافعى على النت ولسه منتظرين النتيجة».

تختم الأم كلامها فيما يُشبه الاستسلام المشحون بالغضب: «لو ضاعت على البنت السنة دى هضطر أنا وأبوها نروح مدارس محو الأمية أو نحاول بأى طريقة نكمل تعليم».

 

«الفاروقية» ممنوعة على أولاد غير المتعلمين.. و«الأرمن» نفس الموقف

معدة التحقيق قامت بجولة ميدانية مصورة على المدارس التى ذكرتها الأمهات فى كلامهن لمواجهة المسئولين فيها بكل ما قيل على لسان الحالات، وأيضًا للتأكد من اتباعها تلك الشروط بالفعل، فمن المعروف أن هذه المدارس لا تقبل أبناء المطلقات، لكن الجديد فى الأمر هو رفض طالب أو طالبة لمجرد أن أبويه ليسا متعلمين أو حاملى مؤهلات متوسطة.

البداية كانت من مدرسة «سانت فاتيما» بمنطقة مصر الجديدة. ادّعت معدة التحقيق أنها متزوجة ولديها طفلان وتريد السؤال عن شروط التقديم والقبول بالمدرسة، لتفاجأ قبل أى شىء بأن مسئولة شئون الطلاب والتقديم تقول فى حديث مسجل: «أهم شروطنا لازم الأب والأم يكون معاهم مؤهل عالى جامعى، مينفعش لا مؤهل متوسط ولا أميين».

حين بادرت مُعدة التحقيق مسئولة شئون الطلاب بالسؤال عن ذنب الأطفال فى عدم تعليمهم، ردت أن هذه شروط المدرسة منذ عامين ويصعب قبول أى طالب يخالف والداه تلك الشروط، لأنهما يخضعان لاختبارات ومقابلات قبل القبول.

لم يختلف الأمر فى مدرسة «الفاروقية»، إذ أكدت المسئولة عن تلقى طلبات التقديم فيها أنهم يقبلون أبناء أصحاب المؤهلات المتوسطة والعالية فقط، فيما لا يُسمح لأمثالهم من أبناء الأميين بالتقديم فيها أو حتى الخضوع للاختبارات التى تجريها المدرسة.

تقول الموظفة: «لازم الأب والأم يكونوا بيعرفوا يكتبوا على الأقل عشان يقدروا يتابعوا الطالب فى البيت، لأن الدراسة مش كلها بتكون على المدرسة فقط، ٥٠٪ بيقوم بيه المدرسين فى الفصل مع الطلاب، و٥٠٪ بيكون على الأب والأم فى البيت».

فى مدرسة «سانت بيتر» أيضًا أكد المسئولون عنها أن من أول شروط القبول فيها حصول الأم والأب على مؤهل عالٍ، أما مدرستا «السيدة خديجة» و«يحيى الرافعى» فرفض القائمون عليهما الحديث عن شروطهما، بدعوى أن باب التقديم للطلاب أُغلق، ولن يتم قبول أحد إلا العام المقبل.

ورغم ارتفاع المصروفات الخاصة بمدرستى «الأرمن» و«المعونة»، فإنهما تحفظتا أيضًا على قبول الطلاب الذين لا يحمل أولياء أمورهم مؤهلات تعليم عليا أو متوسطة، فى رفض واضح لقبول أبناء الأميين، فيما كان الجديد فى كلامهما أنهما لا يقبلان التبرعات بأى شكل كان، وأنهما يعلقان لافتة فى مدخل المدرسة تؤكد ذلك.

 

«التعليم للجميع حتى لو اختلفت اللغة» بنص الدستور

تنص المادة ١٤ من القرار الوزارى ٢٤٠ بتاريخ ٩ سبتمبر ٢٠١٤، على أنه لا يجوز رفض أى طالب الالتحاق بالمدرسة، معتبرة هذا مخالفًا لأحكام قانون التعليم ونصوص الدستور، التى تؤكد فى المادة ١٩ منها أن: «لكل مواطن حقًا فى التعليم المُطابق لمعايير ضمان الجودة العالمية، لا فارق فى دين أو لغة».

أما عن «التبرعات» التى تطلبها المدارس من أولياء الأمور للتغاضى عن تلك الشروط، فينص القرار الوزارى رقم ٣٩ لسنة ٢٠١٦، على حظر تحصيل أى مبالغ مالية تحت مسمى تبرعات من الطلاب أو أولياء الأمور ومن يخالف ذلك يتعرض للمساءلة القانونية.

الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوى، وصف شروط المدارس بأنها غير عادلة، مؤكدًا أنها مطلوبة بالفعل فى المدارس الخاصة وأيضًا الحكومية المميزة.

يرى «مغيث»، فى حديثه، لـ«الدستور»، أن عدم قبول أبناء الأميين أو حملة المؤهلات المتوسطة تنتقص من حقوق الأجيال القادمة لمجرد أن آباءهم ليسوا متعلمين، مضيفًا: «من الظلم أن يتحمل الأبناء عدم استكمال آبائهم تعليمهم لأسباب وظروف خاصة قد تكون مادية».

ويبيِّن أن معظم المدارس سيطرت عليها رءوس الأموال، وأصبحت تفرق بين الغنى والفقير والجاهل والأمى، محملًا وزارة التربية والتعليم المسئولية الكاملة على ذلك، سواء فى المدارس الحكومية التابعة لها أو الخاصة لأن «هناك ظلمًا يُمارس ضد طالبى العلم».

ويحذر الخبير التربوى من أن هذا الأمر يؤدى إلى زيادة أعداد الأميين، فى وقت تنفق فيه الحكومة الملايين لمحاربة الأمية.

وحسب آخر إحصاء صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، خلال تعداد مصر ٢٠١٧، هناك ١٨.٤ مليون أمى من سن ١٠ سنوات فأكثر من إجمالى ٧١ مليونًا و٣٦٩ ألف فرد هم عدد السكان فى هذه الفئة العمرية، يمثلون نسبة ٢٥.٨٪.

عربيًا، احتلت مصر المركز الرابع بين الدول الأعلى أمية، إذ وصلت النسبة فيها إلى ٢٣.٧٪ من جملة أعداد المصريين فى نفس المرحلة العمرية، متقدمة فقط فى الإحصاء على اليمن والمغرب والسودان.

ويبلغ عدد الذكور من المواطنين الأميين فى مصر ١٤.٤٪، مقابل ٢٦٪ من الإناث، فى وقت أوضحت فيه الإحصائية، أن نسبة الأطفال المحرومين من التعليم الإعدادى وصلت إلى ٤.١ ٪، بينما بلغت فى الابتدائى ٠.٥٪.