مفتي الجمهورية يشارك في مؤتمر "تدويل التعليم بين الثوابت والمتغيرات"
قال الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية، "إنَّ الله تعالى أمر جميعَ بني الإنسان بالسعي في طلب العلم النافع، الذي يُثمِر في القلوبِ إيمانًا، وفي النفوسِ زكاةً، وفي الأرواحِ سكينةً، وفي الأرضِ عمرانًا، وفي الكونِ حياةً طيبة".
وأضاف أنَّ العلم يحتلُّ مكانةً عظيمةً وقيمةً كبيرة في منظومةِ القيمِ الإسلامية، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والعلمُ أساسٌ للدين والدنيا، ولذلك اهتمَّ المسلمون عبر تاريخهم بالعلم والعلماء والكِتَاب والمؤسسات التعليمية، وكان لهم السَّبْقُ في ميادينَ علميةٍ كثيرةٍ أنتجتها الحضارةُ الإسلاميةُ، أفادت بها البشريةَ جمعاء، دون تفرقةٍ بين المسلم وغيره.
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها في مؤتمر: "تدويل التعليم بين الثوابت والمتغيرات.. التعليم الأزهري نموذجًا" الذي تُعقد فعالياته في الفترة من 12-13 بمركز الأزهر للمؤتمرات.
وأوضح المفتي أن الله عز وجل قد أثنى على العلماء فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فلا يخشى اللهَ حق خشيتِه إلا العلماءُ؛ ذلك أن الانسان كلما ازداد علمًا بالكون وما فيه، ورأى مظاهرَ عظمةِ الله عز وجل وإحاطتِه بخلقه وقدرتِه عليهم وعظيمِ سلطانه، في مقابل عجز البشر وضعفهم وقلَّة حيلتهم، زادت خشيتُه من الله وتعظيمُه له، وانعكس هذا الشعور العميقُ إحسانًا إلى الخلق ورحمةً بهم، ورغبةً في المزيد من التعلّمِ لإيصال المنافع لهم.
وأشار إلى أنه من هذا المنطلق أدرك الناسُ قيمة العلم وأهميَّة التعليم، فتوجَّهت هممُ ذوي الألباب منهم إلى طلب العلوم بشتى صورها في مختلف المجالات كلٌّ بحسب ما يسَّره الله له من المهارات والظروف والإمكانات، وجاءت الشرائع بعلومٍ خاصة في التشريع والأخلاق والغيبيات فكانت معيارًا وميزانًا لكافة صور العلم الأخرى، ترشدها إلى أمثل الطرق لنفع البشرية وعمارة الكون وعدم الإفساد فيه؛ فنتج عن ذلك أن تنوَّعت تخصصات العلوم، وصار من لم يتيسَّر له طلب العلم من النابهين بفطرتهم يعوِّضون ذلك في أولادهم؛ فيقدِّمونهم إلى المجالس والمكاتب والمدارس المختلفة ليتلقَّوا صنوف العلم المتاحة في بلادهم، ثم ما يلبث هؤلاء الفتية أن يكبروا حتى يسافروا هنا وهناك ليستكملوا ما ينقصهم من علوم ومعارف.
تابع مفتي الجمهورية: "هكذا تَجري مسيرة التعليم في فلك الكون وحياة الناس مجرى الدم في العروق، لدرجة أنه قد يأتي على الناس زمان لا يكون فيه مكان إلا لمعلِّم أو متعلِّم".
وأكد أنه بعد أن وصل التعليم إلى هذا الحدِّ من الأهمية والخطورة في حياة الناس ومجريات زمانهم أدركت المؤسسات الكبرى أنه لا بدَّ من وضعِ نظامٍ محدَّدٍ ومدروس من المناهج التي تسير على ضوئها العملية التعليمية، حتى لا تكون متروكةً لأهواء الناس وميولهم المختلفة، كما أنها رأت أنَّ واقع المتعلِّمين يفرض على أصحاب الشأن العلمي أن يفرِّقوا بين طبقات المتعلمين، فكل مرحلة عمرية لها ظروفها، ولها خطابها العلمي الذي تستوعبه، فتوافقت الأنظمة على اعتماد مناهج معيَّنة للتعليم في مراحله المختلفة، فتعليم الأطفال له مناهج وأولويات، والمرحلة الابتدائية لها مناهجها المتدرِّجة من الأدنى إلى الأعلى، والإعدادية والثانوية يحتاجان مناهج أكثر اتساعًا ودقَّةً، حتى تتوَّج المراحل بالتعليم الجامعي والعالي فتزداد المناهج دقةً واتساعًا.
وبيَّن المفتي أن الهدف من كل هذا الحراكِ العلمي والرقابي والإداري النهوضُ بالتعليم إلى أعلى مكانةٍ، والوصولُ به إلى أبهى صورة، حتى يؤتي ثمارَه المرجوة في تجميل الحياة وتحقيق الكفاية والرفاه.
وقال: "إننا -بعد كلِّ هذا- إذا ما وجَّهنا أنظارنا ما يمَسُّ هُوِيّتَنا العربية ودينَنا الإسلامي وثقافتَنا الأخلاقية على وجه الخصوص وجدنا على رأس مؤسسات التعليم في هذا السياق: الأزهر الشريف؛ حيث تعليمُ اللغة العربية في صورته المثلى، وتعليمُ المعارف الشرعية من الكتاب والسنَّة وكلِّ ما يتَّصل بهما من فروعِ العلم وأصولِه، وفلسفاتُ الأخلاق الراقية التي تهدف إلى الكمال الإنساني الراغب في رضا الله عزَّ وجلَّ وحده، وأصولُ التعامل الهادفة التي تيسِّر سبل التواصل والتكافل بين كافة البشر، وتحفظ الحياة على صفحة الكون على أكمل الوجوه".
وأكَّد مفتي الجمهورية أنَّ الأزهر الشريف الذي قام على مرِّ العصور بدَور كبير في المساهمة الفعَّالة لإنجاح العملية التعليمة وتطويرها، لا يزال يقوم بدَوره الرائد في هذه الأيام، مع كثرة التحديات، وضخامة الأعباء، ولسنا الآن بصدد تعداد وحصر ما قام به الأزهر قديمًا وما يقوم به الآن، فهذا أمر يطول، وإنما نوجِّه الأنظارَ إلى ضرورة الاعتناء بأمور التعليم في الأزهر الشريف، ومساعدته على مزيد من التطوير والتقدُّم، وتذليل العقبات التي تعوق سَيْر منظومته الفريدة في الشأن التعليمي، حتى يظلَّ -كما كان دائمًا- صمامَ أمانٍ وكهفَ سلامٍ يحتوي كلَّ البشر، ويضمنُ لهم علمًا نافعًا، وعيْشًا هانئًا، وحياةً مستقرَّةً.
وأشار إلى أن التعليم في مؤسساتنا الوطنية العربية في الأزهر الشريف وغيرِه لم يكن قاصرًا على لونٍ واحد من المعارف، فلم يهتمَّ بالشريعة ويهمل علوم الكون، ولم يهتم باللغة العربية ويهمل اللغات الأخرى، ولم يهتمَّ بدراسة الدين الإسلامي ويهمل الاطلاع على الأديان الأخرى، ولم يحصر نفسه في قمقم التاريخ وينسى أن يعيش واقعه ويساهم فيه بما عليه من مهمات، وإنما كانت العملية التعليمية هنا مثالًا للتوازن والتكامل والاتساع الفكري البديع، فإلى جانب العربية توجد أقسام اللغات الحية في الكليات المعنية باللغات والألسن، وإلى جانب كليات الشريعة توجد الكليات التجريبية والعملية في مختلف المجالات من الطب والصيدلة والهندسة والزراعة والتجارة والسياسة والاقتصاد ومراصد الفلك، والدراسات النفسية والاجتماعية، وغير ذلك، فالعلوم هنا في الصرح الأزهري على وجه الخصوص تتكامل تكاملًا فريدًا لا نظير له في أي مكانٍ آخر.
وأضاف أن هذا الكون قائمٌ على أسس علمية وأخلاقية وطبيعية متنوعة، ولا تطيب الحياةُ فيه إلى إذا حُقق التوازن بين هذه العناصر، فتبقى البيئة محفوظةً مطوَّرةً آمنةً برًّا وبحرًا وجوًّا، وتبقى المخلوقات مُصانةً كريمةً إنسانًا وحيوانًا ونباتًا، وتحيا القِيمُ النبيلةُ، وتندثرُ المفاسدُ والشرور.
وشدَّد المفتي على أنه يجب في كل المراحل التعليمية السابقة أن يتم غرس الثوابت الخلقية والدينية في قلوب الطلاب وأرواحهم، حتى تتشرَّبها نفوسُهم، وتجري منهم مجرى الدم، فلا يُدخلهم الانفتاح المعرفي في دوامة الضياع وفقدان الهُوية، ويدركون فقه المتغيرات التي تقبل الأخذ والرد؛ حتى لا يقف بهم التحجر والتزمُّت عن اكتساب ما لدى الخلق من علوم ومعارف تنفع أوطانهم وأمتهم.
واختتم مفتي الجمهورية كلمته بالتأكيد على أنه بعد التمكُّن من ضبط العملية التعليمية في المراحل المختلفة، وتحقيق الدرجة المطلوبة من التكامل بين العلوم والمعارف التي يتلقاها المتعلِّم، وترسيخ الثوابت والمتغيرات في أفكار المتعلمين يأتي دورُ (تدويل التعليم) بالانفتاح العلمي المدروس بين دُول العالم؛ فيخرج هذا الطالب المهَيَّأُ علميًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا إلى رحاب المعرفة الواسعة، حيث يمكنه إكمال دراساته وأبحاثه في أي معهدٍ أو مركزٍ أو جامعةٍ عالميةٍ، وكذلك تَفتحُ أقسامُنا المتميزة في المراكز والمعاهد والجامعات أبوابَها للوافدين من مختلف الأجناس والأديان والألسنة، حتى يتحقَّق مقصدُ التعارف الذي أراده الله من تنويع الخلق، فيتم تبادل العلوم والخبرات والمنافع والمعارف، سواء كان هذا التدويل المنضبط في مراحل التعليم الأولى والاستعانة بمناهج عالمية، أو كان في مراحل التعليم العليا، المهم أن نحافظ على ثوابت ديننا وأخلاقنا وثقافتنا مع الانفتاح على كل علم ومعرفة يتوصل إليها الإنسان في أي مجال من المجالات.