د.وائل كامل يكتب: "السنة التأسيسية" مسمار في نعش جودة خريج التعليم الخاص والأهلي
في ظل التحديات المستمرة التي تواجه التعليم العالي في مصر، يثار الحديث عن استحداث "سنة تأسيسية" مقصورة على الجامعات الخاصة والأهلية وممنوعة على الحكومية، تسمح للطلاب بالالتحاق بها دون الالتزام بمجموع الثانوية للالتفاف على نقص أعداد القبول بالتعليم ذي المصروفات المرتفعة، بعد أن فشلت تخفيضات وأوكازيونات الأعوام الماضية بمجموع الثانوية في حل مشكلة ضعف أعداد الملتحقين، الذي وصل التخفيض فيه لتخصص الهندسة على سبيل المثال إلى الستينات.
هذه الفكرة، وإن كانت تبدو وكأنها محاولة لتوسيع فرص التعليم، إلا أنها تثير العديد من المخاوف، وتكشف عن رؤية ضيقة هدفها في المقام الأول إرضاء الزبون، فالمهم أن يتم ملء المقاعد لزيادة الإيرادات.
ويبدو أن العديد من السياسات الحالية لا تهتم بتحسين الجودة الأكاديمية أو تطوير التعليم بشكل جاد، بل تركز بشكل رئيسي على زيادة مصادر التمويل بكافة مؤسسات التعليم العالي لتتحرر الدولة من مسؤوليتها تجاه موازنات التعليم، سواء بتخفيض الحد الأدنى من مجموع الثانوية لزيادة أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعي الخاص والأهلي أو بالإعلان عن شراكات لمنح شهادات مشتركة مع جامعات أجنبية غير معروفة لمجرد رفع قيمة المصروفات، أو بالتوسع في البرامج الخاصة ذات المصروفات بالجامعات الحكومية، دون أن تكون هناك أي مراعاة حقيقية لاحتياجات الطلاب أو لمتطلبات سوق العمل، فالمهم هو الإيرادات وجذب الزبون.
إن قبول الطلاب في الجامعات الخاصة والأهلية بدون شروط أكاديمية واضحة في سنة تأسيسية قد يكون له تداعيات كارثية على مستوى الخريجين، وتدهور مستوى التعليم في بعض التخصصات وعدم ملاءمة مؤهلات بعض الخريجين لسوق العمل لم يعد أمرًا خفيًا، بل أصبح واقعًا يوميًا يعيشه الطلاب وأسرهم. وفتح باب القبول للجميع دون النظر إلى القدرات الأكاديمية الحقيقية يعني ببساطة استباحة العملية التعليمية، وإغراق الجامعات بمجموعات من الطلاب الذين لا يمتلكون الحد الأدنى من المعرفة أو المهارات التي تؤهلهم لإتمام برامج دراسية متقدمة، حتى وإن كانت تحت مسمى سنة تأسيسية.
خريجو الجامعات التي تقبل الطلاب بدون شروط صارمة سيجدون أنفسهم في سوق عمل لا يرحم. بدلًا من أن تساهم الجامعات في بناء كوادر علمية متميزة وتضع ضوابط واختبارات صارمة كنظيرتها الأوروبية المتقدمة لتتأكد من قدرات الملتحقين، فإنها قد تتحول إلى مصانع لإنتاج خريجين "فارغين" من المهارات المطلوبة، لأنه بالتبعية من يقدم تنازلات في بداية القبول تستمر معه التنازلات حتى ولو وصل لتخفيض المحتوى والمناهج ووضع امتحانات ليست على المستوى المطلوب لتلائم القدرات الضعيفة للطلاب ممن يسددون المصاريف بانتظام.
هذا التوجه لا يؤدي فقط إلى تدهور مستوى الخريجين، بل يعزز من فكرة أن التعليم مجرد "سلعة" يمكن تعديلها وفقًا لمتطلبات "الزبون". يتم التركيز على تلبية رغبات الطلاب وأسرهم بدلًا من تقديم محتوى علمي يتسم بالجدية والمهنية.
هذا الاتجاه لا يعكس أية استراتيجية حقيقية للنهوض بالتعليم، بل هو مجرد محاولة لتجاوز الأزمات المالية وزيادة أعداد القبول، مما ينتج خريجًا ضعيفًا ويزيد من عبء البطالة ويعزز من تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
في عالم التعليم العالي المتقدم والمتطور، سواء في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية، لا توجد جامعات مرموقة تقبل طلابًا دون اختبار قدرات أو شرط حد أدنى في مجموع الثانوية العامة. حتى في الجامعات التي تقدم برامج تعليمية غير تقليدية، يتم تحديد المعايير بناءً على اختبار أكاديمي صارم، مما يضمن أن الطلاب المقبولين لديهم مستوى علمي جيد يمكن البناء عليه واستكمال الهرم التعليمي، والمسؤول عن إعداد الطالب لتجاوز امتحان الجامعات هي مؤسسات خاصة أخرى لا علاقة لها بالجامعات لتحقيق الشفافية والجدية.
إن إدخال سنة تأسيسية دون معايير قبول أكاديمية صارمة لا يعد حلًا حقيقيًا لأزمة التعليم العالي الخاص والأهلي في مصر، فالإقبال على تلك النوعية من التعليم مرتبط بشكل أساسي بمستوى الدخل ونسبة القادرين على دفع مصروفاته بالنسبة لتعداد السكان، وتلك النسبة إن لم تكن تتناقص بفعل التضخم فهي ثابتة، وبدلًا من تقليص معايير القبول لتلبية احتياجات السوق، يجب أن تكون السياسات التعليمية موجهة نحو إتاحة التعليم للجميع بناءً على قدرات الطالب العقلية ومهاراته، وليست قدراته المالية.
فكرة وجود سنة تأسيسية في مصر متحررة من قواعد القبول لا تعكس انعدام الرؤية الحقيقية للنهوض بالتعليم فقط، بل تشير إلى تدهور لا يمكن إنكاره في معايير القبول. إذ تقتصر الرؤية على جلب المال من خلال زيادة الطاقة الاستيعابية، وقد تساهم في القضاء على التعليم الأكاديمي المتميز في مصر، وسيؤدي إلى تدهور سمعة التعليم المصري بشكل عام إذا استمر التركيز على زيادة الإيرادات دون مراعاة لرفع جودة التعليم، فإن النظام التعليمي المصري سيكون مهددًا بمزيد من التفكك والضعف، وستتحول المؤسسات التعليمية إلى أماكن تكتظ بالطلاب غير المؤهلين أكاديميًا، بينما تواصل الوزارات المعنية تنفيذ سياسات "إرضاء السوق" دون أن تدرك أن هذه السياسات تضر بالعملية التعليمية نفسها.
وإذا استمر هذا النهج، قد نشهد في المستقبل القريب تراجعًا كبيرًا في سمعة التعليم المصري على مستوى العالم.