د.محمد كامل أحمد يكتب: "الجامعة.. قاطرة الأمة"
منذ صبانا، علقت بأذهاننا شخصيات تحمل مشاعل نور العلم لتضيء طريق الأمة بعد أن خفتت بعد غزو المغول ثم الاستعمار الفرنسي والإنجليزي. فبعد خراب مكتبة بغداد، بدأ تلاشي العلماء الموسوعيين مثل ابن الهيثم والبيروني وغيرهما.
ومع بداية الاستعمار الأوروبي الذي واكب نهضة علمية غربية نتيجة ترجمة كتب العلوم المختلفة والفلسفة وتصنيفها إلى فروع متخصصة، كانت منشأ فكرة المدارس أو الكليات المتخصصة، والتي تجمعت في إطار مؤسسة تشتمل على مجموعة المدارس المختلفة في مكان واحد وسميت جامعة. وقد كانت ثمار العلم في تلك الفترة ظاهرة كالشموع في الظلام، وأدى ذلك إلى سمو العلماء حتى طالت قامتهم قامات الحكام، فنالوا شعبية جارفة في بلادهم نتيجة علمهم الذي رفع مستوى بلادهم إلى المقدمة.
ومع بدايات مصر الحديثة، خاصة بعد الحملة الفرنسية وفك رموز حجر رشيد لمعرفة أسرار حضارة مصر القديمة، إضافة إلى ما نقلوه من مكتبة بغداد، جاء الاستعمار الإنجليزي، وفشلت حملة فريزر سنة 1807 وانتصر المصريون تحت حكم الدولة العثمانية. وعندما عاد الإنجليز واحتلوا مصر في 1882، كانت قد تشكلت مدارس علمية شتى ربما كبح جماحها الإنجليز في البداية، إلا أن بعض المدارس المتخصصة في العلوم الإنسانية كانت عقبة في طريق الإنجليز، فكانت كلية الحقوق، التي تأسست سنة 1868 في عهد الخديوي إسماعيل تحت مسمى مدرسة الإدارة والألسن، والتي انفصلتا لتتحول مدرسة الإدارة إلى مدرسة الحقوق، وأوكل الخديوي إسماعيل نظارتها لفيدال باشا ليخرج من تحت عباءتها مناهضي الاستعمار والمطالبين بحقوق الإنسان المصري في إدارة بلاده.
فأفرز العلم ثوارًا درسناهم في كتب التاريخ، أمثال زعيم الأمة مصطفى كامل، الذي كان من أهم مطالبه إنشاء الجامعة الأهلية المصرية، بل أسس الحزب الوطني لتوحيد الأمة، ثم محمد فريد ومن بعده سعد زغلول. ومن هنا نخلص إلى أن العلم هو من أفرز هؤلاء الزعماء الذين وقفوا في وجه الاستعمار، وظلت الجامعة منذ نشأة جامعة فؤاد مصدر المظاهرات الطلابية حتى جلاء الإنجليز.
لقد أظهرت مدرسة التحرر المصرية دور العلم في وعي الشعوب، مما دفع إلى إنشاء جامعة فؤاد الأول لتوأمة مدرسة التحرر مع مدرسة التطور التي اهتمت بالعلوم الأساسية لتفرز علماء لهم وزنهم مثل مصطفى مشرفة وسامية موسى وأحمد زكي، وغيرهم.
وأدبيًا أفرزت طه حسين، عميد الأدب العربي، وأحمد لطفي السيد، المفكر والفيلسوف وأحد رواد النهضة والتنوير في مصر، ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وغيرهم، لتزداد قناعة المجتمع بأهمية العلم والعلماء، حتى كانت رواتبهم أعلى من رجال القضاء عرفانًا وإكرامًا لهم، حتى لا يكونوا عالة.
لقد أنجبت مصر نوابغ العلم والأدب في الأربعينات ولم ينساهم التاريخ حتى اليوم، وسادت حينها حركة علمية وتنويرية لم تشهدها مصر من قبل أو بعد، وكان للعالم كلمة مسموعة وحصانة أكاديمية ليقول ما يقتنع به دون خوف. وتضاءل وميض الجامعة تدريجيًا حتى أصبحت مصر تتباهى بمن ينبغون خارج حدودها، مثل مجدي يعقوب وأحمد زويل وغيرهم.
إن جدوى الجامعة ينعكس على تطور الأمة علميًا وتنويرًا ويترجم إلى تطور ملحوظ وتقدم مشهود يدفع بالأمة إلى الأمام بين مصاف الأمم. ومن الإجحاف إنكار تدهور مستوى التعليم لغياب الرؤية الخاصة التي تميز الأمة عن غيرها، وتكون سرًا تحفظه للحفاظ على مرتبتها بين الأمم. ولذلك خضنا تجارب كافة الدول الأخرى، وأصبح لدينا جامعة أمريكية وألمانية ويابانية وغيرها لنعلن بمنتهى الوضوح أننا تابعون علميًا للآخر ثقافيًا وبيئيًا، لندور في دائرة مفرغة دون مردود ملموس يوضح أننا تقدمنا في أحد المجالات أو لدينا مدرسة علمية مميزة دون مدارس الأرض، لها خصوصية ونكهة مصرية.
ويبقى السؤال قائمًا: ما أسباب تقهقرنا المستمر رغم المحاولات البائسة التي تغمسنا أكثر في التبعية؟.