د. وائل كامل يكتب: "استقلال الجامعات وكرامة وهيبة أساتذتها: بين الواقع والمفهوم الحقيقي"
تُعد مفاهيم "استقلال الجامعات" و"كرامة وهيبة أعضاء هيئة التدريس" من المفاهيم التي تُستخدم وتُفسر بطرق متعددة حسب الأهواء والمناسبات، سواء من قبل المسؤولين أو السياسيين أو أعضاء هيئة التدريس. ومن المهم إعادة النظر في المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم وكيف يجب أن تُترجم في الواقع.
يرتبط مفهوم "استقلال الجامعات" في الأساس بالحرية الأكاديمية والإدارية التي تضمن للجامعات القدرة على ممارسة التعليم والبحث العلمي دون قيود أو تدخلات. ففي كافة الدساتير المصرية، نُصَّ صراحةً على أهمية استقلال الجامعات، وآخرها الدستور الحالي الذي تنص المادة 21 منه على أن "الجامعات مستقلة"، كما تنص المادة 23 على أن "الجامعات تمارس استقلالها في إطار الحرية الأكاديمية"، مما يعني أن الجامعات تتمتع بحرية تنظيم شؤونها الأكاديمية والإدارية. ولكن هذا الاستقلال لا يعني الانفصال عن الدولة في الأمور المالية أو الأمنية، بل يشير إلى استقلال الفكر الأكاديمي والبحثي والإداري في بيئة خالية من التدخلات، بحيث تدير كل جامعة شؤونها بنفسها، مع توفير الدولة للجامعات كافة احتياجاتها المالية والأمنية.
في الواقع، يختلف استخدام هذه المصطلحات في السياق المحلي والعالمي. في بعض الدول المتقدمة، يُعتبر استقلال الجامعات جزءًا لا يتجزأ من تطوير التعليم العالي، حيث تضمن هذه الجامعات حرية الأكاديميين في التدريس والبحث والإدارة دون رقابة أو تدخل. وتتولى الدولة تأمين التمويل الأساسي للجامعات وتوفير الأمن والأمان لها، بينما تتمتع الجامعات بإدارة مستقلة فيما يتعلق بالقرارات الأكاديمية والسياسات الداخلية الخاصة بشؤونها.
أما بالنسبة لمفهوم "هيبة وكرامة أعضاء هيئة التدريس"، فهو يشمل معايير متكاملة تتعلق بحقوق الأكاديميين وواجباتهم في بيئة أكاديمية مهنية خالية من الضغوط والمشاكل والمعوقات.
على المستوى العام، يشير مفهوم "الكرامة والهيبة" إلى احترام حقوق عضو هيئة التدريس في ممارسة مهامه التعليمية والبحثية بحرية تامة، لأن كل أستاذ جامعي له مدرسته التعليمية ومنهجيته وأسلوبه الخاص به في التدريس والتقييم والتقويم. في الدول المتقدمة، مثل الجامعات الأوروبية والأمريكية، تُعتبر كرامة وهيبة عضو هيئة التدريس مرتبطة بتوفير بيئة أكاديمية تضع الأستاذ الجامعي على قمة الهرم الاجتماعي وبيئة بحثية حافلة بالفرص والتسهيلات.
كما يُتوقع من أساتذة الجامعات التزام واضح بمعايير أكاديمية عالية، مثل تطوير مهاراتهم وقدراتهم المهنية، وحسن التعامل مع الطلاب والزملاء، والحيادية والشفافية في تقييمات الطلاب وبذل الجهد في جميع مهامهم على أكمل وجه. هذا الاحترام المتبادل يعزز من هيبتهم ويجعلهم جزءًا أساسيًا من عملية التعليم والنمو الأكاديمي.
في سياق الجامعات المصرية، نجد أن مفهوم "استقلال الجامعات" يُستخدم في بعض الأحيان لتحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية فقط، حيث يعتقد بعض المسؤولين أن استقلال الجامعات يعني استقلالًا ماديًا فقط، أي رفع يد الدولة عن دعم الجامعات ماليًا لكي تحقق كل جامعة الاكتفاء الذاتي من خلال مواردها فقط أو تحقق وفورات مالية من مخصصاتها المالية لتردها كفائض لوزارة المالية سنويًا، مما يؤدي إلى تحويل العملية التعليمية من خدمة تعليمية إلى سلعة، وتكبيل يد الجامعات بإلزامها بتسديد نسبة لوزارة المالية من أي مورد يدخل إليها. وتصبح الأولوية دائمًا لتسليع التعليم وجلب الموارد وقياس كافة الأمور على أساس المكسب والخسارة المادية، بأي شكل وطريقة، حتى لو كانت على حساب جودة العملية التعليمية والبحثية وضعف الخدمة المجتمعية بتوفير النفقات والمستلزمات والصيانة والتعيينات أيضًا. لكن هذا الفهم يفتقر إلى المعنى الأصيل للاستقلال الأكاديمي الذي يضمن للجامعات حرية التفكير والبحث وإدارة شؤونها بنفسها وتوفير كافة الموازنات التي تحتاجها الجامعات بعيدًا عن أي ضغوط مالية أو سياسية أو شخصية، حتى لا تتأثر جودة المخرجات بالحاجة للأموال والبحث الدائم عن الموارد.
ويقابل ذلك مزيد من التدخلات الخارجية في اختيار القيادات الجامعية، ومزيد من التدخلات في نظم التقييم وأعمال الامتحانات بتعميم نظام الاختيار من متعدد ثم العدول عنه ثم فرض الأسئلة المقالية مع الاختيار من متعدد أو تحديد نسب لكل منهما في الامتحانات. وهناك أيضًا المزيد من التدخلات تحت اسم الكتاب الجامعي أو الكتاب التفاعلي الإلكتروني، وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات في العملية التعليمية والإدارية ليتحول مفهوم التعليم الجامعي القائم على البحث والاطلاع والابتكار إلى تعليم مدرسي بكتاب موحد ونظم تقييم موحدة ونظم إدارة محددة وتدخل في تعيين قياداتها وروتين وبيروقراطية معيقة.
أما بالنسبة لـ "هيبة وكرامة أعضاء هيئة التدريس"، فإن المسؤولين في بعض الأحيان يربطونها فقط بالمخالفات الأكاديمية والإدارية، ويتغافلون عن الشمولية التي ينبغي أن تتسم بها هذه الكلمة. فالكرامة والهيبة لا تتعلق فقط بالحساب والعقاب، بل تشمل أيضًا مسؤولية الدولة في توفير بيئة مهنية تليق بمكانة من وهبوا أنفسهم لخدمة وطنهم وتحمل مسؤولية تقدم وتطور بلدهم، من خلال تحسين رواتبهم وجعلها في قمة الهرم لتحقيق الاستقرار ليتفرغوا لمهامهم المكلفين بها، بدلًا من البحث عن مصادر دخل أخرى تعوض ضعف رواتبهم التي صنفتهم كأقل دخل بالطبقة المتوسطة على حساب تركيزهم في رسالتهم السامية. وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية اللائقة لهم ولأسرهم على غرار ما يتم توفيره لبعض الكوادر الخاصة الأخرى، مع تطوير فرص التعليم المستمر والتنمية المستدامة للقدرات الأكاديمية ودعمها بكافة السبل.
لذلك، لا بد لنا من تبني مفهوم أكثر شمولية لاستقلال الجامعات ومفهوم كرامة وهيبة أساتذتها، بعيدًا عن المظاهر الشكلية أو الطروحات السطحية التي تُطبق حسب الأهواء والأهداف السياسية والشخصية، والتي قد تؤدي لما فيها من سلبيات إلى "تدهور مستدام" بدلًا من "التنمية المستدامة".
هذا، إن كنا نرغب في اللحاق بركب التقدم لوطننا الحبيب على كافة المستويات.